الثلاثاء، 8 مارس 2011

صور على الطريق

يأسرنى منظر تلك الأشعة المتمردة وهى تدفع عن جسدها أيدى الغيوم البيضاء لتسقط وتداعب وجه البحر، فيدفعها على عينى فأراه وقد جعلته كماسة رقراقة تزبن صدر المدينة. أراها حين أخرج من المكتبة وأسير على الشاطىء كعادتى، فأتعثر فى خيط حكاية، أعمل على تجميع بقية أطرافها، فتداخل وتتعقد، ثم تهرب فى حنايا قصة قرأتها أو عشتها، فيغلبنى اليأس من الحكايات، فأقع على حرف قصيدة، بلون البحر أخط حدودها، إلا أن لحنا دمويا -رغم صفائها- يطاردها فيتخللها فتتمزق فأمقتها وألقيها فى البحر، فهل سيحملها إلى البر الآخر أم سيعيدها إلى صدر المدينة ؟ لا يهم يكفى أنه سيحتضنها كما يحتضن المراكب فى قلبه الماسى المائع.

   أتنقل بين صورٍ غير عابىء بالوقت الذى يفر خلف السيارات الفارهة فى استباقها نحو المجهول. مرهقٌ، لو كنت كطائر النورس هذا لتركت للريح جناحى فيحملنى حتى يكل، ثم يتركنى لأفترش البحر  واستريح.
على صخرة أجد شابة وقفت متمايلة يأخذ خصرها إنحناءة شعلة نارية تطوقه ذراعيها فتزيده إشتعالا وإشعالا يأخذ الريح شعرها كما يأخذ طائر النورس، يتطاير فيتسرب منه عطرا فجا يشوش على رائحة البحر. يقف أمامها شاب من نظراته يبدو حبيبها ومن تصرفاته يبدو غبيا يلتقط لها صورة من أمامها مباشرة. لو انخفض بعدسة الكاميرا لأسفل قليلا وجعل الشمس خلف حبيبته، لو تراجع وجعل الخلفية موضع إندماج السماء بالأرض لحملت الصورة معانٍ تستحقها حبيبته. حملها من خصرها الملتهب لينزلها، فارتمت على صدره، فظهرت القلعة من الخلف وكأنها تحت قدميها. ياله من مشهد! ماذا لو التقطه ؟! تفكيرى فى هذا السؤال أضاع منى هذه الفرصة، فأكملت طريقى.

-ورد يا بيه !
قالتها وهى تعبث بوردة حمراء على خدى، لم تكن جميلة إطلاقا، لكن فى عينها صراخ مدوى لرغبة مسمومة. أجبتها شاكرا، لا أريد؛ فاستبدلت الوردة بإصبعها، لن استلسلم لن أكون صريع رغبة مسمومة، نعم تتملكنى رغبة ملحة لكن ليست لهذه المرأة الضالة. هل أصفعها لتفيق من سكر تلك الرغبة؟ هل أهرب منها؟ لن أصفعها، يكفيها ما تلقته من صفعات وركلات الحياه، ولن أهرب، فإن هربت أنا فمن لها إذا ؟! ذلك الأعمى الذى سيصب سُمه على رغبتها ؟؟ أم هارب آخر ؟؟
- هاخد وردة لكن اسمحيلى أمشى دلوقتى .. لو بتقفى هنا على طول هعدى عليكِ.
- أكل العيش يحب الخفيه يا بيه لو وقفنا هنا الورد هيدبلو .
-طب خدى الفلوس ديه وبلاش شغل النهاردة
- شكلك فهمتنا غلط يا محترم .. أحنا مش بنشحتوا .. سلام يابيه ..
- استنى بس ..
- ورد .. ورد .. احمر ياورد ..
وغاب صوتها وسط هدير الأمواج ...

ولم أكد أدير وجهى عن بائعة الورد حتى تلقفتنى بائعة المناديل. لم تتجاوز الخامسة على يسرها أخوها يعضعض علبة مناديل وفى يمناها علبة أخرى.
- اشترى منى والنبى
هيئتها مقلقة، تقترب تنزل أخاها على الأرض فيمر من بين قدمىّ ويعبث بهما، وهى تتشبث بأطراف معطفى تتمسح فيه كقطة .. أجزم أنها لا تريد مالا حتى لو طلبته بلسانها. حاجتها أكبر من المال، فهل كانت ضحية رغبة كرغبة بائعة الورد؟ أم ضحية غباء والدين غير مؤهلين لحمل عواقب حبهما؟ ومن المسئول عن هذا الغباء؟ إن لم أكن أنا أحد المسئولين فلا أحد إذا مسئول.

لكننى فعلا لا بد أن أمضى فى طريقى فأنا على موعد من أجله خرجت من المكتبة، أبعدت الطفلة فى رفق وأعطيتها ثمن المناديل وتركتهم لها. وذهبت مسرعا. لكن حتى إسراعى لن يوقفنى عن تأمل تلك الصور الملقاة على الطريق ولن يمنعنى من تأمل جمالها وقبحها.
أصحاب عاهات ملقون على الطريق يروجون لسعاتهم، يشترون الرأفة بدعوة مهرطقة. أصحاب رغبات مسمومة يسرقون من اللذة ما لا يحق لهم.
تتستر تحت نقاب فهل سيرحمها من العيون المحتقرة لها؟ هل سيوقف اللعنات التى تنزل على رأسها من أفواههم النجسة تلعن النقاب ومن يرتديه بكافة أنواعهم ؟ يجلس بجانبها غير عابىء لا بنظرات ولا بها، يتعامل معها كجسد، قطعة لحم فقط.

يمر شيخان ينفران من المنظر، ينهرانه، فيسخر منهما ويستمر فى إنتهاكه لقطعة اللحم التى بجواره، يغضبان فيضربانه. تصرخ فيحمل حجرا يقذفه تجاههما، يتفادانه، يذهب أحدهما فيطوقه ويستعد الآخر لصفعه، تعلو صرخاتها، يحتشد الناس، ماذا لو كان فى وسط المحتشدين أخٌ أو قريب أو حتى جار لها ؟!

تأخرت، جريت، وصلت، ها هى حبيبتى تنتظر، تحلق فى طائر النورس البعيد، كعادتها جميلة، لكن لا لهذا أحببتها، فأنا أحبها لأسباب غير موجودة ..
- بخ ! أتأخرت عليكِ ؟!
- خمس دقايق وكنت همشى.
- طب يلا نروّح عشان تعبان.
- نعم بقى أنا أستناك كل ده وأنت تتسكع فى الشوارع وفى الآخر تقولى تعبان ونروّح ؟! اتفضل روّح أنا مش مروّحة ..
ضايقنى إنفعالها، لكنى استحسنت الأمر، سأستغل الموقف وأذهب لمطعم الجمهورية. هى لا تحبه لأسباب يجتمع عليها المغفلون وهى أنه ليس نظيفًا .. فيا أيها الحمقى يا من لا يحبون الصدق هل تعلمون ما يجرى خلف الستائر فى المطاعم الفارهة. هذه ذقنى لو تعرفون فمطابخهم بها أسرار تتساوى خطورة مع الأسرار العسكرية.
أذوب مع الصلصة السارحة فى صوابع المعكرونة البشاميل مع قطع الكبدة والسدق، لا تظنه طعاما عاديا، فهو ليس كذلك. أفلا يقولون أن الأكل نفس ؟ فماذا لو كان الأكل تاريخ .. يبدو أن المذاق سيكون مختلفا.
أنظر إلى صورة مؤسس الجمهورية خلف الكاشير، أى رجل هذا ! أى ملامح هذه ؟! تجاعيد وجهه ولونه يذكرانى بتربة أرضنا السمراء، عمّته وشاربه يحملان معانٍ بعيدة، نظرته جادة لكن تعتريها نفحة طيبة لا تخفى، الشال على كتفه كالنيل على صدر مصر، ليس هذا فقط ما يجعل مذاق الطعام مميزا، فتدافع الناس ورائحتهم وأصواتهم المزعجة تعطى مذاقا فريدا
- 2 كبدة و 3 سدق .. واحد فول و 2 فلافل .. 2 مكرونة .. هنا ولا برة .. ألفهالك ! .. عندك حواوشى .. طب هات 2 كلاوى .. اتوصى .. مبتبعوش حلويات ..
تشبعت من مذاق الحياة .. هل من أمنية أخرى أطلبها بعد هذه الوجبة الملوكى ؟ لا تسخروا .. نعم ملوكى بل وأعظم .. فأين ذلك الملك الذى يأكل طعاما بمذاق الحياة؟! إنه يكتب إليكم بعد أن خرج من الجمهورية متوجها لشارع السبع بنات، منتشيا من رائحة الخمر المنسكب على جدران الحياة.
- هانوفيل يا اسطى
يستوقف مواصلة تحمله إلى بيته الآيل للسقوط، يجيبه سائق الميكروباص
- بيطاش
- بيطاش بيطاش هو حد واخد منها حاجة .
يهم بالصعود، تتعلق بيده يدٌ رقيقة تجذبه، فينزل، ينظر خلفه فيراها .. هى حبيبته، يفتح ذراعيه ليعانقها، فتدفعه فى صدره برفق وتضحك
- يلا نركب عشان نروّح انت مش كنت تعبان ؟
- لو تعبانة اتفضلى روّحى أنا مش مروّح. تحبى تروحى على فين باريس ولا لندن ولا نيويورك ولا فينا؟
- أنا مكانى هنا، واندفعت ملقية برأسها فوق كتفه، التصقا، فهل يصبحان قلبًا واحدًا، حلمًا واحدًا، ألمًا واحدًا.
إحم أصبحا معًا فضيحة واحدة
- اللى أداك يدينا يا سيدى .. يا عم ما احنا تعبانين زيك .. أصل لو أهلك ربوكى مكنتيش تعملى كده .. هى ديه الثورة اللى علمتكم قلة الأدب .. أنت معندكش بنات تخاف يحصل فيهم كده .. هى البلد ولعت من شويه .... إلخ
- أنا بقول نروح أحسن ؟
- أحسن برضه ..

 محمود يوسف
7/3/201

هناك تعليق واحد:

  1. ماشي... كدا أنا عندي شعور اننا تقريبا نفكر بنفس المنهج: ذاك الذي لا يعرفه غير عشاق الكتابه.
    كلماتك كثيرا ما أجدها تملئ ثغرات مقلقه في قاموسي...
    أشكرك و أرجو التواصل

    ردحذف