النقد الأدبي: أصوله ومناهجه by سيد قطب
My rating: 4 of 5 stars
إنه لمن المحزن ألا يأخذ بحثٌ كهذا حقه من الإجلال والتعظيم وأن يُعدم كما أُعدم صاحبه؛ فأنا أراه قد طرق فى عالم الأدب طريقا مهجورًا، وما الهجر هذا بقصر فى الطريق ولكن القصر كان من إناس ذلك العصر الذين لا يطلبون من الفن إلا لذته الزائفة ناسين أن الفن وسيلة وليس غاية، وأن المتعة ما هى إلا سمة من سماته، فأراهم يتحولون إلى الشعر لما فيه من نغم وخلافه من جماليات، ولا أنقص من قدر الشعر فالشعر أرقى فنون الأدب لكنه ليس أهمها وأجدهم يلجئون إلى القصة لما فيها من حَبكٍ درامى وصراع وخلافه، تاركين من فنون الأدب ما هو أهم وأعظم. وأجد أن البحث من أهم المجالات - حاليا- التى تحتاج إلى الأدب لتضفى على مادة البحث لونًا من الجمال ينفك به الجمود المخيم على مادته العلمية، ويحتاج إليها الأدب ليرتقى بما تحتويه من أفكار. وبتلك الإمكانية التى يمتلكها الأدب فى التأثير فى النفس والفكر تعود الصورة لوضعيتها الصحيحة فالفن -بما فيه الأدب- وسيلة، ترتقى بنا ونرتقى بها، تحوى أفكارنا؛ فتحتويها نفوسنا.
لقد قوّم ذلك البحث نظرتى إلى الفن عمومًا والأدب خصوصًا؛ فهو يُعتبر بمثابة مرحلة إنتقالية فى حياة القارىء المبتدئ فى مجال الأدب، وبمثابة مقدمة فى مجال النقد. ولا أقصد بالنقد، ذلك النقد الإحترافى الذى يُدعى صاحبه ناقدًا، إنما النقد الواجب على كل قارىء حتى يُقال أنه قارىء، فالكتاب يتناول موضوع بدائى، فيعرض فى جزئه الأول لماهية العمل الأدبى فى جملة "التعبير عن تجربة شعورية فى صورة موحية" ثم يبسط تلك الجملة فى فصول يتناول فيها تعريف القيمة الموضوعية بجانبيها الشعوري والتعبيرى ثم ينتقل بترتيب أنيق للمواضيع إلى مناقشة تلك القيم فى كل فن من فنون الأدب عارضًا للوسيلة التى يتطلبها كل نوع حتى ينضج ويصل لغايته الأساسية التى يؤثر بها فى القراء.
ثم ينتقل بعد ذلك فيبدع فصلا بعنوان قواعد النقد الأدبى بين الفلسفة والعلم ويعتبر ذلك الفصل مقدمة لفصل مناهج النقد الأدبى الذى يليه، وقد تناول فيه بعض الأراء الفلسفية والعلمية التى تعرض للأدب بما فيها نظرة أفلاطون وأرسطو للفن عمومًا والشعر خصوصًا لكونه مادة الأدب فى ذلك العصر، ثم يتناول الربط بين الفنون بمختلف أشكالها حتى يصل إلى نتيجة أن معاملة الفنون لايمكن أن تكون واحدة يجمعها مصطلح "قواعد النقد الفنى" وإنما لكل فن خصائصه التى تميزه لذا فهو بحاجة لقواعد النقد الخاصة به.
حتى يصل إلى الفصل الذى من أجله كان البحث وهو "مناهج النقد الأدبى" فيعرض لأربع مناهج هى:
1- المنهج الفنى، وفى تناوله يعرض تعريفًا وتأصيلا تاريخيًا بالأمثلة المقتبسة من كتب العرب القديمة ثم يعرض لأمثلة من العصر الحديث.
2- المنهج التاريخى، وقد تناوله بنفس الطريق التى سلكها فى المنهج الفنى.
3- المنهج النفسى، كسابقيه، إلا أنه أضاف إليه نماذج من تحليلات فرويد وغيره من علماء النفس فى تحليلهم لبعض الأعمال الأدبية.
4- المنهج المتكامل، وهو المنهج الذى آثره فهو يجمع بين جميع المناهج .
ورغم كل ما يميز البحث من بساطة لغوية وتناسق وترتيب ورؤية موضوعية جعلته يضع بعض الأدباء أصحاب مذاهب تتنافى مع مذهبه الأخلاقى فى قمة الهرم الأدبى، إلا أن بعض المقاطع التى برزت فى البحث قد جعلت من تلك السمات سمات تقليدية
فها هو يعرض لأخطر مخاطر "المنهج التاريخى" التى يتغنى بها بعض كُتّاب العصر وكأنهم مكتشفونها
"ومن أخطر مخاطر " المنهج التاريخى" الإستقراء الناقص والأحكام الجازمة، والتعميم العلمى.
فالإستقراء الناقص يؤدى بنا دائما إلى خطأ فى الحكم. ومن الأستقراء الناقص الإعتماد على الحوادث البارزة والظواهر الفذة التى لا تمثل سير الحياة الطبيعى. فألمع الحوادث وأبرز الظواهر ليست أكثر دلالة من الحوادث العامة والظواهر الصغيرة. وما نراه نحن أكثر دلالة قد لا يكون كذلك فى ذاته، بل ربما انجذابنا الخاص للإعجاب به أو الزراية عليه هو علة ما نرى فيه من دلالة بارزة! والأسلم أن نجمع أقصى ما نستطيع الحصول عليه من الظواهر والدلائل: حادثة أو نصا أو مستندا .. وألا نصل أحكامنا إلا بعد الإنتهاء من جميع الأسانيد، فذلك أضمن وأكفل بالصواب." أليس هذا ما يتغنى به شخصٌ يُدعى يوسف زيدان ؟! ماعلينا ..
تعالى لنعرف بماذا يتصف العلماء، يذكر سيد قطب فى أمثلة على خطر الأستقراء الناقص فيقول فى أحداهم:
"اعتمدت أنا شخصيا فى إصدار حكم على شعور الشاعر العربى بالطبيعة فى كتاب "كتب وشخصيات" (مثال رقم 2 فى المنهج الفنى) على استقراء المشهور من الشعر العربى، فهو حكم قابل للتخطئة، وأنا الآن أحاول أن أعيد الدراسة لاستيعاب المشهور وغير المشهور من هذا الشعر، لوزن ذلك الحكم الذى أصدرته متعجلاً!" هل من سمة أجلّ من اعتراف الإنسان بخطئة؟! تلك السمة التى تناساها الكثير من الكُتاب، ظنًا منهم أن شهرتهم التى اكتسبوها جعلتهم إلاهيين بمنأى عن الخطأ.
وانظر إلى تلك النظرة التى نظرها سيد قطب للأوضاع فى مصر قبل ثورة 23 يوليو 52 :
"ونستطيع من دراسة الأدب فى مصر فى العصر الحديث أن نلمح أنها تجتاز فترة اضطراب وبحث عن اتجاه لم تستقر عليه الأفكار، حينما نرى فيه عدة اتجاهات إلى أقصى اليمين وإلى أقصى اليسار. بعضهم يفتش عن المثل فى أطواء تاريخنا القديم فى عصر النهضة الإسلامية، وبعضهم يتمجد بالفرعونية، وبعضهم يتجه إلى أوربا وأمريكا، وبعضهم يتجه إلى روسيا؛ كما أن بعضهم ينطوى على نفسه عازفًا عن المجتمع وما فيه .. هى حالة تموج واضطراب . قد تتمخض عن انقلاب وقد تتمخض عن استقرار " ألم يعقب ذلك قيام ثورة 23 يوليو 52 ؟! أوليست تلك هى حالتنا قبل قيام ثورة 25 يناير ؟!
وحتى لا أطيل فكل فقرة فى الكتاب تحتاج إلى نظر وتحليل، أذكر سمة أخيرة يفتقدها كثير من النقاد سارقو الأحلام، الرافضون لمبدأ التجديد، وهى سمة المرونة "فالمناهج بصفة عامة فى النقد تصلح وتفيد حين تتخذ منارات ومعالم، ولكنها تفسد وتضر إذا جعلت قيودًا وحدودًا. شأنها فى هذا شأن المدارس فى الأدب ذاته فكل قالب محدود هو قيد للأبداع، وقد يصنع القالب لنضبط به النماذج المصنوعة، لا تصب فيه النماذج وتصاغ"
هذا كان عرضا موجزا لكتاب النقد الأدبى أصوله ومناهجه لصاحبه الشهيد على يد الديكتاتورية الناصرية التى لم يرح ضحيتها سيد قطب فقط بل راحت معه أفكار ثورية وإبداعات كان سيبدعها هو وغيره لولا ضيق أفق وبهيمية القادة الذين حرّموا الرأى والفكر ما داما غير أرائهم وفكرهم.
محمود يوسف
1\3\2011
View all my reviews
My rating: 4 of 5 stars
إنه لمن المحزن ألا يأخذ بحثٌ كهذا حقه من الإجلال والتعظيم وأن يُعدم كما أُعدم صاحبه؛ فأنا أراه قد طرق فى عالم الأدب طريقا مهجورًا، وما الهجر هذا بقصر فى الطريق ولكن القصر كان من إناس ذلك العصر الذين لا يطلبون من الفن إلا لذته الزائفة ناسين أن الفن وسيلة وليس غاية، وأن المتعة ما هى إلا سمة من سماته، فأراهم يتحولون إلى الشعر لما فيه من نغم وخلافه من جماليات، ولا أنقص من قدر الشعر فالشعر أرقى فنون الأدب لكنه ليس أهمها وأجدهم يلجئون إلى القصة لما فيها من حَبكٍ درامى وصراع وخلافه، تاركين من فنون الأدب ما هو أهم وأعظم. وأجد أن البحث من أهم المجالات - حاليا- التى تحتاج إلى الأدب لتضفى على مادة البحث لونًا من الجمال ينفك به الجمود المخيم على مادته العلمية، ويحتاج إليها الأدب ليرتقى بما تحتويه من أفكار. وبتلك الإمكانية التى يمتلكها الأدب فى التأثير فى النفس والفكر تعود الصورة لوضعيتها الصحيحة فالفن -بما فيه الأدب- وسيلة، ترتقى بنا ونرتقى بها، تحوى أفكارنا؛ فتحتويها نفوسنا.
لقد قوّم ذلك البحث نظرتى إلى الفن عمومًا والأدب خصوصًا؛ فهو يُعتبر بمثابة مرحلة إنتقالية فى حياة القارىء المبتدئ فى مجال الأدب، وبمثابة مقدمة فى مجال النقد. ولا أقصد بالنقد، ذلك النقد الإحترافى الذى يُدعى صاحبه ناقدًا، إنما النقد الواجب على كل قارىء حتى يُقال أنه قارىء، فالكتاب يتناول موضوع بدائى، فيعرض فى جزئه الأول لماهية العمل الأدبى فى جملة "التعبير عن تجربة شعورية فى صورة موحية" ثم يبسط تلك الجملة فى فصول يتناول فيها تعريف القيمة الموضوعية بجانبيها الشعوري والتعبيرى ثم ينتقل بترتيب أنيق للمواضيع إلى مناقشة تلك القيم فى كل فن من فنون الأدب عارضًا للوسيلة التى يتطلبها كل نوع حتى ينضج ويصل لغايته الأساسية التى يؤثر بها فى القراء.
ثم ينتقل بعد ذلك فيبدع فصلا بعنوان قواعد النقد الأدبى بين الفلسفة والعلم ويعتبر ذلك الفصل مقدمة لفصل مناهج النقد الأدبى الذى يليه، وقد تناول فيه بعض الأراء الفلسفية والعلمية التى تعرض للأدب بما فيها نظرة أفلاطون وأرسطو للفن عمومًا والشعر خصوصًا لكونه مادة الأدب فى ذلك العصر، ثم يتناول الربط بين الفنون بمختلف أشكالها حتى يصل إلى نتيجة أن معاملة الفنون لايمكن أن تكون واحدة يجمعها مصطلح "قواعد النقد الفنى" وإنما لكل فن خصائصه التى تميزه لذا فهو بحاجة لقواعد النقد الخاصة به.
حتى يصل إلى الفصل الذى من أجله كان البحث وهو "مناهج النقد الأدبى" فيعرض لأربع مناهج هى:
1- المنهج الفنى، وفى تناوله يعرض تعريفًا وتأصيلا تاريخيًا بالأمثلة المقتبسة من كتب العرب القديمة ثم يعرض لأمثلة من العصر الحديث.
2- المنهج التاريخى، وقد تناوله بنفس الطريق التى سلكها فى المنهج الفنى.
3- المنهج النفسى، كسابقيه، إلا أنه أضاف إليه نماذج من تحليلات فرويد وغيره من علماء النفس فى تحليلهم لبعض الأعمال الأدبية.
4- المنهج المتكامل، وهو المنهج الذى آثره فهو يجمع بين جميع المناهج .
ورغم كل ما يميز البحث من بساطة لغوية وتناسق وترتيب ورؤية موضوعية جعلته يضع بعض الأدباء أصحاب مذاهب تتنافى مع مذهبه الأخلاقى فى قمة الهرم الأدبى، إلا أن بعض المقاطع التى برزت فى البحث قد جعلت من تلك السمات سمات تقليدية
فها هو يعرض لأخطر مخاطر "المنهج التاريخى" التى يتغنى بها بعض كُتّاب العصر وكأنهم مكتشفونها
"ومن أخطر مخاطر " المنهج التاريخى" الإستقراء الناقص والأحكام الجازمة، والتعميم العلمى.
فالإستقراء الناقص يؤدى بنا دائما إلى خطأ فى الحكم. ومن الأستقراء الناقص الإعتماد على الحوادث البارزة والظواهر الفذة التى لا تمثل سير الحياة الطبيعى. فألمع الحوادث وأبرز الظواهر ليست أكثر دلالة من الحوادث العامة والظواهر الصغيرة. وما نراه نحن أكثر دلالة قد لا يكون كذلك فى ذاته، بل ربما انجذابنا الخاص للإعجاب به أو الزراية عليه هو علة ما نرى فيه من دلالة بارزة! والأسلم أن نجمع أقصى ما نستطيع الحصول عليه من الظواهر والدلائل: حادثة أو نصا أو مستندا .. وألا نصل أحكامنا إلا بعد الإنتهاء من جميع الأسانيد، فذلك أضمن وأكفل بالصواب." أليس هذا ما يتغنى به شخصٌ يُدعى يوسف زيدان ؟! ماعلينا ..
تعالى لنعرف بماذا يتصف العلماء، يذكر سيد قطب فى أمثلة على خطر الأستقراء الناقص فيقول فى أحداهم:
"اعتمدت أنا شخصيا فى إصدار حكم على شعور الشاعر العربى بالطبيعة فى كتاب "كتب وشخصيات" (مثال رقم 2 فى المنهج الفنى) على استقراء المشهور من الشعر العربى، فهو حكم قابل للتخطئة، وأنا الآن أحاول أن أعيد الدراسة لاستيعاب المشهور وغير المشهور من هذا الشعر، لوزن ذلك الحكم الذى أصدرته متعجلاً!" هل من سمة أجلّ من اعتراف الإنسان بخطئة؟! تلك السمة التى تناساها الكثير من الكُتاب، ظنًا منهم أن شهرتهم التى اكتسبوها جعلتهم إلاهيين بمنأى عن الخطأ.
وانظر إلى تلك النظرة التى نظرها سيد قطب للأوضاع فى مصر قبل ثورة 23 يوليو 52 :
"ونستطيع من دراسة الأدب فى مصر فى العصر الحديث أن نلمح أنها تجتاز فترة اضطراب وبحث عن اتجاه لم تستقر عليه الأفكار، حينما نرى فيه عدة اتجاهات إلى أقصى اليمين وإلى أقصى اليسار. بعضهم يفتش عن المثل فى أطواء تاريخنا القديم فى عصر النهضة الإسلامية، وبعضهم يتمجد بالفرعونية، وبعضهم يتجه إلى أوربا وأمريكا، وبعضهم يتجه إلى روسيا؛ كما أن بعضهم ينطوى على نفسه عازفًا عن المجتمع وما فيه .. هى حالة تموج واضطراب . قد تتمخض عن انقلاب وقد تتمخض عن استقرار " ألم يعقب ذلك قيام ثورة 23 يوليو 52 ؟! أوليست تلك هى حالتنا قبل قيام ثورة 25 يناير ؟!
وحتى لا أطيل فكل فقرة فى الكتاب تحتاج إلى نظر وتحليل، أذكر سمة أخيرة يفتقدها كثير من النقاد سارقو الأحلام، الرافضون لمبدأ التجديد، وهى سمة المرونة "فالمناهج بصفة عامة فى النقد تصلح وتفيد حين تتخذ منارات ومعالم، ولكنها تفسد وتضر إذا جعلت قيودًا وحدودًا. شأنها فى هذا شأن المدارس فى الأدب ذاته فكل قالب محدود هو قيد للأبداع، وقد يصنع القالب لنضبط به النماذج المصنوعة، لا تصب فيه النماذج وتصاغ"
هذا كان عرضا موجزا لكتاب النقد الأدبى أصوله ومناهجه لصاحبه الشهيد على يد الديكتاتورية الناصرية التى لم يرح ضحيتها سيد قطب فقط بل راحت معه أفكار ثورية وإبداعات كان سيبدعها هو وغيره لولا ضيق أفق وبهيمية القادة الذين حرّموا الرأى والفكر ما داما غير أرائهم وفكرهم.
محمود يوسف
1\3\2011
View all my reviews